الأحد، 13 مايو 2012

قراءة في عرض ((أنتيجونا)) لمنقذ محمد فيصل البجدلي.



قراءة في عرض ((أنتيجونا)) لمنقذ محمد فيصل البجدلي.



عباس عبد الغني


تدريسي ومخرج مسرحي /كلية الفنون الجميلة/جامعة الموصل.






قدمت كلية الفنون الجميلة في قسم المسرح عرضاً مسرحياً موسوماً بـ(أنتيجونا) النص الأصلي لـ(سفوكلس) لكنه تم إعداده وإخراجه من قبل التدريسي في قسم المسرح منقذ محمد فيصل.


تمحورت فكرة العرض حول القرار الملكي من {كريون} بدفن جثة ابن أخته {إيتوكليس} وبحرمان {بولونيس} من هذا الحق الذي لاقى حنقاً كبيرا من لدن {أنتيجونا} الابنة الكبرى للأخوين المقتولين مما جعلها تثور على هذا القرار الكريوني التكنوقراطي وتخرج لدفنه ,ورغم كل التحذيرات التي لاقاها كريون من السلطة الدينية المتمثلة بـ{ترزياس} إلا أن (كريون ) صمم على أن ينفذ حكم القتل بـ {أنتيجونا}وان ترمى في حفرة لتموت فيها,فلاترمي توسلات {هايمون} الابن المدلل لـ {كريون} أية استجابة لدى ابيه المُصِر على تنفيذ الحكم فيأتي الخبر بمقتل {أنتيجونا} وبالتحاق هايمون بها فيخرج الأموات ويقتلون كريون.


لم يخرج المعد والمخرج من عباءة سوفكليس وسيطرته على النص والحكاية التي جاءت بمفردة التحدي لتمتلك سطوة الممكن واللاممكن في الحكاية الاسطورية التي اقترب فيها الجانب الدنيوي الحياتي من لدن المتلقي ,لقد أثار المتخيل الذي يُحكى عبر الرواة أو الاصوات القادمة من خارج المسرح مكمن الجانب المُتَشَكِل في ذهن المتلقي الموصلي الحذر والنخبوي ,لم يأت بجديد في هذا العرض الذي غابت عنه (أسمينا) الاخت لـ(أنتيجونا) فلقد خاض التجربة من قبل المخرج العراقي عبد الوهاب عبد الرحمن في اخراجه لأنتيجونا العام 1989 في مهرجان المسرح العربي في بغداد.ومشاهد الجوقة كانت بديهية في العرض السفوكلسي وهذا الذي لم يتخلص منه المخرج في عرضه المتشكل وفق المتخيل المتفق مع رؤى وارهاصات الماضي وليس الحاضر ,حيث سبقه في هذه التجربة المخرج العراقي الدكتور عادل كريم في العام 1979 في عرضه لأنتجونا.


ولو عدنا الى الستينات من القرن الماضي,لوجدنا ان المخرج سامي عبد الحميد ايضا خاض التجربة نفسها بلون مختلف تماما عند الغاءه للجوقة تماما.


وهنا جاء منقذ محمد فيصل , ليضيف الجانب التشكيلي الحركي الذي تلون في العرض بين المتمكن والفاقد لادواته البصرية , فعالم المُثل هو المرئي المتشكل امام المتلقي وليس المتخيل الذي يأت بأهاب السامع ليختلف فيه الحاضر والغائب.فمنذ المشهد الاول الذي دخل الحوار فيه مدخلاً فيه ارهاصات ميتوفية استطاع عبرها المخرج ان يسيطر على اداواته الاخراجية وأن يتمكن من اللعب بالحركات ليعيد صياغة نص سفوكلس ويبرمج عبر الحركة والموسيقى سمفونية (انتيجونا) الفتاة الثائرة بوجه الدكتاتورية الكريونية التكنوقراطية.


استطاع الممثلون في مشاهد الحوار التي تعددت في العرض والتي ان استثناها المخرج لما نقص شيء من عباءة العرض ولازاد من جعبته, أن يوظفوا في قدراتهم الملامح الأساسية في قدرة الممثل من أن يوصل الفكرة الى المتلقي رغم تلكؤ البعض فيهم وهو أمر طبيعي في أي عرض مسرحي,إن كنا نؤطر العرض بالرسم البياني فأنه كان يدنو نحو الأسفل عبر مشاهد الحوار ويرتفع الى أعلى القمة بالحركات, إلا أن مشهد السلطة الدينية المتمثل بـ (تريزياس) جاء ليرفع من إيقاع المشاهد ويعلي من همة العرض , فتقنية الصوت والخبرة التي يمتلكها التدريسي الفنان المتألق يونس عناد جعلته يتحكم بالأدوات البصرية والسمعية لشخصية تريزياس ويسطر على الشخصية بدلا من أن تسيطر عليه,أما الديكور فكانت صياغته السينوغرافية متميزة من حيث ادخال البهرجة والتألق المبهر الى وعي المتلقي لتمتزج بذائقته الفنية وتفصح عن صياغة إبداعية حسبت لصالح المخرج.


تميزت الموسيقى بكونها المتسيد على العرض بعد تسيد معالجة المخرج ,وهو أمر ملفت للنظر في تسيد الموسيقى على مكامن العرض ومفاصله , فالممثل يتحرك وتتحرك الموسيقى وفق تشكلاته الجسدية وليس العكس كما حصل في هذا العرض وعروض اخرى وذلك مرده الى عدم وجود مؤلف موسيقي في وطننا العربي وهنا يضطر المخرج الى تجيير الحركة والفكرة على المنصة وفق رغبات وميول الموسيقى, ووقتها الذي ربما يأخذ مساحة اكبر من حركة الممثل مما يجعل الأخير يكرر في حركاته ويمد بها فيخلق نوعاً من التكرارية المملة على المنصة .


في عرض (انتيجونا) تشكلت الموسيقى لتتلون بعبق الماضي الكلاسيكي وحاضر الحداثة .فكانت التشكيلات الحركية مبنية على الأيقاعات الموسيقية بدراية وخبرة كبيرين مما جعل المتلقي ينجذب نحو ماتعنيه تلك الحركات من معان ودلالات عدة في العرض.


تَحَكَم المخرج في أدواته الأخراجية عبر التشكيلات الحركية التي بنيت على الايقاع أولاً واللحن الموسيقي ثانياً , فالايقاع تحكم في كل حركة, واللحن زاد الايقاع جمالية في التعبير عن افكار النص الذي بنيت مفاصله من نصوص عدة .


استطاع ممثلو العرض من أن يوهموا المتلقي الحذر بفكرتهم التي استجاب لها الجميع في القاعة من المتذوقين للمسرح وفنونه الركحية التي تشبعت بتفاصيل الحكاية السفوكلسية التي امتلأت بالروح الاغريقية المتمفصلة بالسينوغرافيا المعطرة بأريج الماضي وعبق الحاضر.


نقطة اخرى حُسِبت لصالح المخرج بأيلائه الجانب التثويري في العرض وربطه بين هجوم بولونيس لطيبة وبين هجوم الاحتلال الامريكي لبغداد موظفاً التقنية السينمائية (الشاشة ) في مؤخرة العرض ,مما جعل المتلقي يربط بين الحالتين ويصفق دون وعي منه .


الهنات التي أصابت العرض والتي كانت سبباً في تلكؤ بعض الحركات المبنية وفق الإيقاع المستمر والتي أصابت الموسيقى عبر التنفيذ لم تكن لتؤثر على العرض بشيء إلا ما أصاب بعض المتلقين بنوع من الحذر الذي كان مدعاة الى أن يذكروا مع أنفسهم (هيا أيها المنفذ الموسيقي ..هنا توجد ضربة موسيقية هنا)..


على العموم كان عرض مسرحية(أنتيجونا) من العروض المتميزة في كلية الفنون الجميلة ومدينة الموصل وهي شهادة يشهد بها جميع المسرحيين .


أتمنى من كل قلبي لكادر العرض وقسم الفنون المسرحية والفنان الرائع  منقذ محمد فيصل التوفيق والنجاح والأستمرار في هذا النهج وتطويره عبر كوادر وإعداد من الممثلين اقل لتكون مسألة مشاركة أي عرض بعد هذا مسألة معقولة في المحافل الدولية .











ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق